استهلال:
سيبدو من السذاجة والتبسيط أن نردّ ظهور، ومن ثم تنامي وتعملق، تنظيم كـ"الدولة الإسلامية في العراق والشام"، (داعش) بالاختصار العربي، إلى سبب واحد، حتى لو رجحت كفة سبب على آخر. ولنعترف بأن ظهور تنظيم مشابه لن يكون بسبب واحد محدّد ومنجز. وباعتقادي فإن الأسباب المتعددة تلك تتفرّع في عدة محاور: المحور الإيديولوجي/ الثقافي، والمحور السياسي/ الاستراتيجي السلطوي، والمحور الاقتصادي/ الطبقي، وكذا المحور الإنساني النفسي/ التربوي، إن صحّ أن نعتبره محوراً خاصاً. هذه المحاور تتداخل وتتمازج في معظم الأحيان.
ففي البداية ينبغي أن نعترف إنه لولا الدعم البشري الذي حظى به تنظيم كـ(داعش)، سواء في بعض المناطق التي يحتلها، حتى لو كان نسبة قليلة من السكان، أو من كل أصقاع العالم: من المنتسبين والمتبرعين والمقاتلين والداعمين بشتى السبل، لما استطاع الاستمرار والنمو يوماً بعد يوم بشكل يثير الدهشة كما يثير الأسئلة!
الغرب وداعش:
ثمة سؤال كبير يشغل العالم اليوم: لمَ يتنازل كل هذا العدد من الشباب والشابات من مختلف بلدان العالم عن حيواتهم (الطبيعية)، والتي قد تكون في أحيان كثيرة حيوات مستقرة أو ناجحة بالمعنى الاجتماعي، للالتحاق بتنظيم (داعش)؟! ليست المغامرة بالتأكيد، وتكسير قوالب اجتماعية بائدة، سبباً وحيداً ومقنعاً، ولو أنه من الممكن أن يكون وارداً في بعض الحالات. لكن الأمر يتعدى ذلك بكثير، وإن كان الغرب يتبرأ اليوم من هذه النزعات العنفية التي تتبدى في أفراد منه يغادرونه للالتحاق بتنظيم (داعش)، فالعنف يتجلّى في جزء كبير من بنية هذه المجتمعات الرأسمالية الغربية التي أفرزت ظواهر مشابهة، وليس الإعلام إلا واحداً من هذه البنى. فمن جهة هناك الكثير من هذه الفئات الشابة عاش التهميش الاجتماعي والطبقي في بلدان المركز الرأسمالي الأبيض، وسوف تكون ردات الفعل المشابهة على الفقر والحرمان وقلة الفرص وانعدام المساواة، وغيرها من الدوافع الجالبة لردود الفعل، أمراً مفهوماً. لكن بالمقابل فإن هناك شريحة كبيرة من هؤلاء لم تكن تعاني من كل ذلك، بل على العكس كان عيشها ميسوراً بالمعنى المادي، ولم تعانِ التهميش الطبقي أو الاجتماعي الثقافي أو الجنسي! فلماذا إذاً؟
لنتفق إن الإنسان بالعموم يبحث طيلة عمره عن معنى لحياته، وأعتقد بأن هذه الفئات الشابة كانت تبحث عن (المعنى)، ولنقرّ بأن حياة بلا معنى لا يمكن أن تعاش، أو أنها تنتهي نهايات مأساوية معروفة. في معظم بلدان الغرب يبحث الشباب المنتسبون إلى (داعش) عن معنى كبير لحيواتهم، فكرة إيديولوجية كبيرة يؤمنون بها تحقن الحياة بسبب للحياة، ويكون هنا في حالتنا بفكرة إيديولوجية دينية تحارب: أولاً "المركز الأبيض"، كصراع طبقي تخوضه الهوامش الطبقية، وثانياً "الفاسق"، كصراع أخلاقي اجتماعي، وثالثاً "الكافر"، كصراع ديني، ورابعاً "الصليبي"، كصراع يحمل بذوراً تاريخية موغلة في الدين أيضاً. هذا الصراع المحمّل بتلك الأفكار يجمع الناس على حلم "الدولة الإسلامية".
أما الشباب من العالم الثالث فيكون الانتساب إلى تنظيم (داعش) بمثابة حقن الانتماء في حيواتهم، وسط غياب شبه كامل للحياة السياسية وللانتماءات الوطنية، لترتدّ الانتماءات إلى ما قبل الانتماءات الوطنية، أي هنا للانتماء الديني الطائفي. الشباب العربي أو الإسلامي في المنطقة يريد من الانتساب إلى (داعش) ومثيلاتها من التنظيمات المتطرفة (الدفاع عن الإسلام والجهاد في سبيل الله ونصرة المسلمين المضطهدين من قبل الغرب).
العنف مولّداً للتطرف:
بالنظر إلى الحالة السورية فإن من المسببات الأساسية، والتي تزيد من تفعيل الأسباب السابقة الذكر، هو الأداء المكثّف للنظام السوري، إن لجهة العنف الوحشي الذي تم تطبيقه على الداخل السوري وجوبهت به الثورة السورية منذ بدايات العام 2011، والذي فتح الباب واسعاً لغضب وحقد وشحن طائفي مذهبي، ولحالة من العنف المضاد من قبل الشارع لمواجهة آلة العنف متزايدة الوحشية من قبل النظام السوري، المدعوم من قبل روسيا وإيران سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
هذا العنف غير المسبوق كثّف أكثر من حاجة الشعب السوري إلى "منقذين" أو "مخلّصين" يردؤون الخطر القادم من قلب "الوطن"! أو لنقل خلق قوة "محدثة" يمكنها حماية الشعب من شرّ أكبر يحيق بهم. ومن سيكون هؤلاء "المنقذون المخلّصون"، أو تلك القوة المحدثة، وسط غياب البدائل؟! والتي سنذكر أسباب غيابها بعد قليل. كما أن ما قام به النظام من تربية خلايا الجهاديين في داره لاستخدامها فيما بعد لضرب الثورة، ساهم بشكل أو بآخر في تقوية الوجود الإسلامي المتطرف.
(من المهم أن نذكر هنا أمراً مهماً يخصّ الكثير من السلفيين "الدعويين والجهايين والتكفيريين"، والنوعين الأخيرين على وجه الخصوص، كان قد تم إرسالهم من قبل النظام السوري ومن رحم سجونه، خصوصاً سجن صيدنايا، بعد العام 2003 للقتال في العراق. من عاد سالماً من هؤلاء، وعلى الأخص قادتهم المعروفين بالاسم، تم إطلاق سراحهم بعد اندلاع الثورة ليكونوا عنصراً أساسياً في حرفها وأسلمتها، خصوصاً بعد أن غدا السلاح هو الحاكم على الأرض، وفي ظل غياب شبه كامل لدعم قوى المعارضة الديمقراطية. ويعتبر "زهران علوش" قائد "جيش الإسلام" اليوم من أشهر هذه الأمثلة، الذي اعتقل عشرات الناشطين المعارضين العلمانيين من أمثال رزان زيتونة وسميرة خليل في "دوما"، وأمطر دمشق بالقذائف).
كل ما سبق عمل على خلق قاعدة شعبية موالية للإسلاميين، لم تكن في الحقيقة ظاهرة من قبل في المجتمع السوري، وعلى إزكاء الجانب الإسلامي الديني في شارع الثورة، وعمل على إظهار النظام بمظهر مقاتل الإرهابيين وليس قاتل شعبه! وساعد على اشتداد تنظيم كتنظيم (داعش) وجبهة النصرة والكثير من الكتائب الإسلامية الأخرى! كأنه يعيد تاريخ النظام الأميركي مع القاعدة، التي ساهم بصنعها لتكون شوكة في خصر الشيوعيين السوفييت، ثم راح يقاتلها بحجة أنه يقاتل الإرهاب، وفي الحقيقة أنها انقلبت عليه. حرب النظام الأميركي المتسلسلة التي وصلت إلى العراق، حربه غير الضرورية كما تمّ وصفُها، وسياساته الخاطئة هناك عملت على إزكاء أكبر للفتن الطائفية، كما عملت على إزكاء أكبر لمشاعر الحقد والغضب في صدور العشائر السنية والبعثيين السابقين، وليس غريباً أن يكون اثنان من كبار ضباط الجيش العراقي أيام صدام حسين هم اليوم أهم قادة (داعش) في العراق. هذا ما أثّر تأثيراً مباشراً على سوريا، وعلى عموم المنطقة كذلك، ويستمر تأثيره حتى اليوم في حرب "التحالف الدولي" ضد الإرهاب!
ضعف المعارضة الديمقراطية والمعتدلة:
التقاعس الغربي عن دعم المعارضة المعتدلة الديمقراطية والعلمانية، وخصوصاً الدول التي أسمت نفسها "صديقة الشعب السوري" والتي عملت على مدار أربع سنوات من عمر الثورة السورية على ادعاء دعم المعارضة الديمقراطية والشعب السوري بالكلمات فحسب، أدى إلى تصيير المعارضة الديمقراطية أو المعتدلة على أرض المعركة أضعف الجهات، وتقوية الجانب الإسلامي، ومن ثم الجهادي والتكفيري. وسط غياب التأثير الحقيقي للمعارضة السياسية الديمقراطية والعلمانية، والتي لم تستطع البتة استقطاب الشارع السوري لأسباب عديدة منها أولاً ضعف خبرتها السياسية، وثانياً عمل النظام السوري الطويل على خلق هوة بين الشارع والنخب السياسية المعارضة، كما النخب الثقافية، إن بالترهيب والتخويف أو بتشويه السمع، ولسبب ثالث أيضاً يتمثّل في سوء أداء هذه المعارضة في قسم لا بأس به منها، لجهة ارتهانها لقوى ودول خارجية عملت على شراء ذممها، ولجهة انشغالها بالأمجاد الشخصية والفتن الداخلية والتحاصص.
لكن العديد من الدول والمؤسسات والأفراد التي دعمت قسماً من المعارضة السورية دون الآخر، خصوصاً المعارضة الإسلامية والسلفية الجهادية منها، عملت على تقوية التنظيمات الإسلامية بشتى درجاتها في الشارع السوري، وليس تمويل (داعش) الأساسي إلا من تلك الجهات بالدرجة الأولى، ومن ثم بالتأكيد من غنائمها وامتداد قوتها على الأرض والتي راحت تسيطر على مساحات واسعة من الشرق والشمال السوري، بدعم واضح من تركيا التي فتحت حدودها للمساعدات، البشرية والمادية، القادمة إلى (داعش). وأعتقد بأن موقف تركيا هذا هو من ضمن لعبة المصالح القائمة في المنطقة بعمومها اليوم، فتركيا تفعل ما تفعله لجهة تقوية الإسلام السني وجعل الكفة ترجح على الوجود الإيراني الشيعي في المنطقة، والذي بسببه أيضاً تعمل السعودية وقطر ومعظم دول الخليج على دعم الحراك (السني)، وعلى تجيير كل ما يحصل في الوطن العربي، إعلامياً ومادياً، باعتباره حرباً طائفية، بل حرب وجود، بين السنة والشيعة.
في النهاية كل هذا الدعم المالي والعسكري والإعلامي، وتجيير الثورات إلى حروب طائفية، يشكّل سبباً مهماً من بقاء (داعش) على قوتها وتمدّدها واستعارها.
النظرة إلى التاريخ الإسلامي:
هناك سبب لا يقل أهمية باعتقادي عن كل الأسباب السابقة بل ويكثّفها، ولا أعتقد بأنه قد تم تسليط الضوء عليه جيداً، وهو أساليب تعليم الدين والتاريخ الإسلامي في ظلّ غياب المنهج النقدي.
من المتعارف عليه بأن التعليم المدرسي لبنة أساسية في بناء الوعي الإنساني، التي يبنى عليها أحياناً مستقبل الشخص وحياته وتصرفاته، وفي أحيان كثيرة قناعاته الجذرية وإيديولوجياته، إن لم يكن قد ملك تقنيات عالية في نقده. ومن المعروف أيضاً للذي درس في المنطقة العربية أن معظم مناهج التعليم الديني، التي تدرّس النشء الجديد تاريخ الإسلام، لا تعيد قراءة التاريخ من زاوية نقده أو باعتباره مجرد تاريخ، بل على العكس إنها تكرّس كل أخطاء التاريخ الإسلامي وتعتبره من المقدسات التي لا يمكن المسّ بها، وتعتبر مسلم اليوم مجرد تكملة، يجب أن تكون حسنة، لذلك التاريخ الموغل في العنف.
للمراقب المدقّق سيبدو من الواضح أن (داعش)، كنموذج للحركات الجهادية التكفيرية، تجيّر كل جريمة ترتكبها إلى أصلها ومستندها إن لم يكن في الدين الإسلامي- الذي تفسّر نصوصه لصالحها- ففي التاريخ الإسلامي اللاحق على النص، والذي يزخر بأمثال تصرفاتها. سيقول قائل: ولكن (داعش) تفسّر النصوص الإسلامية كما تريد، وهي تفسيرات وقراءات غير صحيحة. هذا صحيح، لكن النص الإسلامي حمّال أوجه، ومن هنا تأتي أهميته، والقراءة المغلقة والمختزلة للدين موجودة، وتمتلئ بها كتب الفقه والتفسير، كما تمتلئ بها منابر المساجد ودروس التربية الدينية وحصص دراسة التاريخ الإسلامي، بالحض على العنف وكره الآخر وتكفيره والقتل والعقاب والقصاص بشتى أشكاله. دون أن نهمل طبعاً جانباً كبيراً مشرقاً من تفسير النصوص الإسلامية ومن التاريخ الإسلامي غاب تماماً من حاضر (داعش) ومن يماثلها في الخطاب الديني المتطرف.
ذلك الخطاب المتطرّف موجود في كل الديانات، والتاريخ البشري منذ نشأته زاخر بأمثلة مشابهة لـ(داعش)، كما تواريخ معظم الأديان الأخرى، السماوية وغير السماوية، الزاخرة أيضاً بالعنف والقتل والكره والعقوبات الوحشية، كالتاريخ اليهودي وتاريخ الكنيسة في عصور محاكم التفتيش مثلاً. لكن هذا لا يعني أن لا نقف ضد هذا الجذر العنفي في دواخل البشر، كما يمكننا أن نلاحظ بأن أوروبا اليوم لا تتغنّى بتاريخها الدموي الحافل لقرون طويلة، ولا تبرر في مناهجها التربوية المختلفة هذه الأعمال، بل تعمل بشكل واضح وممنهج على نقدها، والتبرؤ منها بشتى الوسائل، وأحياناً كثيرة تجاهلها كأنها لم تحدث!! الأمر الذي يجعلنا نفكر كم يساهم المنهج النقدي تجاه التاريخ والدين في تبديد، ولو جزئي، لتكريس وتمجيد العنف. الفكرة الأساسية هنا أن لا يتم النظر إلى التاريخ الإسلامي باعتباره مقدساً، والاقتناع بأن لكل عصر أحكامه وتشريعاته، ولا يمكننا اليوم أن نحيا في أحكام وقراءات وأساليب عمرها ألف عاماً مثلاً، هذا ضد حكم الزمن وتطوره.
شواهد داعش:
على سبيل المثال لا الحصر، تبرر (داعش) حربها ضد الجماعات المعارضة المعتدلة أو الديمقراطية، متمثّلة في الجيش السوري الحر، بما قام به الخليفة الراشدي الأول أبو بكر الصديق في "حروب الردة"، وهي حملات عسكرية ضد القبائل العربية التي ارتدت عن الإسلام بعد وفاة الرسول محمد. ولطالما تم تمجيد تلك الحروب في التاريخ ومناهج تدريسه. (داعش) تعتبر الجيش الحر هنا مرتداً عن الإسلام، الذي تمثّله وحدها، وتقوم بما قامت به حروب الردة بقيادة خالد بن الوليد وعمرو بن العاص من جهاد في سبيل الله! إنه تبرير تأتي به من رحم التاريخ الإسلامي الذي تستخدمه لصالحها، والذي كان على الدوام تاريخاً مقدساً، ولا يمكن الطعن بمصداقيته وأحقيته في فعل ما فعل، أو في نقده. الأمر مشابه لما فعلته (داعش) مؤخراً أيضاً في تدمير التماثيل الأثرية الآشورية في متحف الموصل العراقي بمدينة نينوى، كما فعل (أجدادهم) من قبلهم في تدمير تماثيل (الجاهلية) حين قدم (الفتح الإسلامي) إلى مكة. وعلى الرغم من خروج الكثير من الفتاوى الشرعية التي تدين ما تفعله (داعش) في تدمير الآثار، وبعضها رأى أنها تحاول تغطية تهريبها للآثار بتدمير نسخ عنها، وبعضها رأى بأن الأسباب التاريخية الموجبة للفعل الأساسي مختلفة اختلافاً جذرياً، لكن يبقى للفعل الرمزي الأثر الأكبر، كما تأثير جلد الناس ورجم النساء وقطع الرؤوس والحرق وغير ذلك. وللحقيقة فالتاريخ الإسلامي زاخر بذلك، وتطول الأمثلة على أشكال العقوبات التي كانت سائدة.
(داعش) التي تريد اليوم إقامة الدولة الإسلامية، بمقتضيات تاريخ بائد وقراءات بائدة له، تعتمد على عقد اجتماعي دينيّ وليس وطني، وتكثّف تلك الجوانب المعتمة من التاريخ، وتنتقيها دون غيرها لخدمة مشروعها ورؤيتها القائمة على التخويف والترعيب والسيطرة، دون أن تستفيد من أي ملمح مشرق في ذلك التاريخ رغم كثرة ملامحه المشرقة. الأمر الذي جعلها آخر من يهتم ببناء دولة ديمقراطية سورية، بل هي ضد ذلك كمبدأ. في سبيل ذلك ستفخر بالأجانب (الإسلاميين) الذين يشكلون عنصراً أساسياً في صفوفها، من أمثال قائدها العسكري العام عمر الشيشاني (من إمارة القوقاز)، كما ستعدم الكثير من ضباط الجيش السوري الحر الذين خرجوا عن طاعتها لأسباب تتعلق باختلاف الإيديولوجيا الموجبة للقتال، كما قتلت الكثير من الأسرى في محاكمها الشرعية (في أواسط 2014 قتل ما يقرب 700 شخص في دير الزور)، وقصفت مدناً سورية معارضة كالأتارب مثلاً. تاريخ (داعش) القصير نسبياً حافل بكل هذه الممارسات. وعلى هذا فجزء من (داعش) كذلك صنيعة التاريخ، تاريخنا، والقراءة الخاطئة والضيقة له، وارتباطه الوثيق بحاضرنا وربما مستقبلنا، لذلك فـ (داعش) بشكل ما هي تكثيف لكل المساحات المظلمة في تاريخنا.
التغيير من رحم المجتمعات العربية:
في النهاية، الدعوة الموجبة لتغيير زاوية النظر إلى التاريخ الإسلامي وتفعيل النظرة النقدية له، والتي تبدأ من دراسة التاريخ والدين وسبل تعليمهما، ليس بالضرورة أن يكون برعاية أميركية، كما شاع مؤخراً عن "مجموعة 19" وتقريرها الشهير: "الجوانب النفسية للإرهاب الإسلامي"، وضغطها على كل من السعودية ومصر، ممثلة بالأزهر، لتغيير وتعديل المناهج الدراسية الدينية والتاريخية، والتي برأيها تحرض على كره الديانات الأخرى وتشجع على القتل والحروب وتؤيد مفهوم الجهاد وما إلى ذلك، بل يجب باعتقادي أن يكون بأيدٍ عربية وإسلامية، لأن تغيير النظرة إلى التاريخ الإسلامي، وإعادة قراءته ونقده، وتفعيل جوانبه الإنسانية المشرقة، واستبعاد جوانبه العنفية الظلامية، هو أمر بالدرجة الأولى لصالح العرب والمسلمين، لأن استمرار الحال على ما هو عليه سيؤدي إلى تعملق مستمر للتيارات والتنظيمات الإرهابية، وهذا ما سيعمل على تآكل المجتمعات الإسلامية والعربية بشكل مضطرد، وتغييب كل الجوانب الجميلة والإنسانية في الدين الإسلامي، وسيؤدي مع الزمن إلى الخراب الكامل. وأعتقد بأن الكنيسة الأوروبية، بعد عصور محاكم التفتيش وانطلاق عصور الأنوار، لم تكن لتستمر لولا انقلاب أدائها والتغيير الكامل والجذري لتصرفاتها، تبرؤها من ماضيها ومحاولات التمازج والانسياب مع المجتمعات الحديثة والمتطورة بتسارع والذي راحت تحكمها القوانين العلمانية وشرعة حقوق الإنسان.
ولا بد لي هنا من تحية أخيرة لأولئك النهضويين الذين قادوا الدعوات المبكرة للإصلاح الديني والتي بدأت في المنطقة العربية منذ القرن التاسع عشر، من أمثال محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وغيرهما، والذين لم يستمع إليهم أحد، ولأحفادهم من المفكرين المتنورين الذين عانوا في القرن العشرين ما لم يعانه أجدادهم، من اغتيالات وتكفير وتضييق وعنف ضدهم، من أمثال المفكرين المتنورين فرج فودة والصادق النيهوم ونصر حامد أبو زيد وغيرهم، أولئك الذين حاولوا جاهدين أن يدقّوا ناقوس الخطر قبل فوات الأوان.